الشبهة حول اعجاز القرآن

لقد اثيرت حول اعجاز القرآن الكريم - من قبل المستشرقين والمبشرين - شبهات كثيرة نظراً لاهمية هذا البحث وعظمه الاهداف التي يحققها. وقد عرفنا في بحث اعجاز القرآن الادلة التي يمكن ان نستنتج منها أَن القرآن الكريم ليس صنعة بشرية وانما هو وحي الهي، ولم تكن الادلة السابقة تعتمد في الوصول الى هذه النتيجة ملاحظة الاسلوب البلاغي للقرآن الكريم. ولكن الاسلوب البلاغي للقرآن الكريم كان ولا زال احد الاسس المهمة التي اعتمدها الباحثون لاثبات اعجاز القرآن. وسوف نرى في أكثر الشبهات الآتية ان نقد القرآن الكريم فيها يعتمد على ملاحظة الاسلوب البلاغي له فحسب لغرض اسقاط هذا الدليل الذي يعتمد عليه أحياناً في اثبات اعجاز القرآن.

ويمكن تقسيم الشبهات الآتية الى قسمين رئيسين : الاول الشبهات التي تحاول ان تبرز جانب النقص والخطأ في الاسلوب والمحتوي القرآني، والثاني الشبهات التي تحاول ان تثبت ان القرآن الكريم ليس معجزة لقدرة البشر على الاتيان بمثله.

القسم الاول من الشبهات حول اعجاز القرآن :

 

الشبهة الاولى :

ان الاعجاز القرآني يرتكز بصورة رئيسية على الفصاحة والبلاغة القرآنية ونحن نعرف ان العرب قد وضعوا قواعد واسساً للفصاحة

والبلاغة والنطق تعتبر هي المقياس الرئيسي في تمييز الكلام البليغ من غيره. وبالرغم من ذلك نجد في القرآن الكريم بعض الآيات التي لا تنسجم مع هذه القواعد بل تخالفها الامر الذي يدعونا الى القول بأن القرآن الكريم ليس معجزاً لانه لم يسر على نهج القواعد العربية واصولها. وتسرد الشبهة بعض الامثلة لذلك.

ويمكن ان تناقش هذه الشبهة بأسلوبين رئيسيين :

الاول : ملاحقة الامثلة والتفصيلات التي تسردها الشبهة وبيان انطباقها مع القواعد العربية المختلفة وانسجامها معها. وملاحظة شتى القراءات القرآنية التي يتفق الكثير منها مع هذه القواعد، بالشكل الذي لا يبقي مجالاً لورود الشبهة عليها. وقد قام العلامة البلاغي بجانب من ذلك(1).

الثاني : مناقشة أصل الفكرة التي تقوم عليها الشبهة ومدى امكان الاعتماد عليها في الطعن باعجاز القرآن وهذا ما سوف نقوم به في هذا البحث وذلك بملاحظة الامرين التاليين :

أ - ان تأسيس قواعد اللغة العربية كان في وقت متأخر على نزول القرآن الكريم وفي العصور الاولى للدول الاسلامية بعد ان ظهرت الحاجة اليها بسبب التوسع الاسلامي الذي أدى الى اختلاط العرب بغيرهم من الشعوب. وقد كان الهدف الرئيسي لوضع هذه القواعد هو الحفاظ على النص القرآني ولغته. وقد اتبعت في استكشاف هذه القواعد طريقة ملاحظة النصوص العربية الواردة قبل هذا الاختلاط أو التي لم تتأثر به. فلم تكن عملية وضع القواعد عملية تأسيس واختراع من قبل واضعي اللغة العربية وانما هي عملية استكشاف لما كان العرب يتبعه من أساليب في البيان

والنطق خلال كلامهم ولذا كان الكلام العربي الاصيل هو الذي يتحكم في صياغة القاعدة وتفصيلاتها.

ولا شك ان القرآن الكريم كان أهم تلك المصادر التي اعتمد عليها واضعو هذه القواعد في صياغتها وتأسيسها لانه اوثق المصادر العربية والكلام البليغ الذي بلغ القمة.

وعلى هذا الاساس التاريخي لوجود قواعد اللغة العربية يجب ان يكون الموقف تجاهها ان نجعل القرآن هو القياس الذي يتحكم في صحتها وخطئها لا ان نجعل القواعد مقياساً نحكم به على القرآن. لان القاعدة العربية وضعت على ضوء الاسلوب القرآني فاذا ظهر انها خلاف هذا الاسلوب، يكشف ذلك عن وقوع الخطأ في عملية استكشاف القاعدة نفسها.

ب - ثم اذا لاحظنا موقف العرب المعاصرين للقرآن الكريم - وهم ذوو الخبرة والمعرفة الفائقة باللغة العربية - وجدناهم قد اذغنوا واستسلموا للبلاغة القرآنية وتأثروا بها وذلك ايماناً منهم بانه يسير على أدق القواعد والاساليب العربية في البيان والتعبير، ولو كان في القرآن الكريم ما يتنافى مع قواعد اللغة العربية وأصولها لكان من الجدير بهؤلاء الاعداء ان يتخذوا ذلك وسيلة لنقد القرآن ومنفذاً للطعن به.

 

الشبهة الثانية :

ان القرآن قد تحدث عن قصص الانبياء كما تحدثت الكتب الدينية الاخرى كالتوراة والانجيل عنها وعند المقارنة بين ما ذكره القرآن وما ورد في التوراة والانجيل نجد القرآن يخالف تلك الكتب في حوادث كثيرة ينسبها الى الانبياء واممهم الامر الذي يجعلنا نشك في ان يكون مصدر القرآن الوحي الإلهي لسببين :

الاول : ان هذه الكتب من الوحي الالهي الذي اعترف به القرآن واذا كان القرآن وحياً الهياً أيضاً فلا يمكن ان يناقض الوحي نفسه في الاخبار عن حوادث تاريخية واقعية.

الثاني : ان هذه الكتب لازالت تتداولها امم هؤلاء الانبياء وهم بطبيعة ارتباطهم الديني والاجتماعي بأنبيائهم لابد وان يكونوا أدق اطلاعاً على أحوالهم من القرآن الذي جاء في امة ومجتمع منفصل عن تاريخ هؤلاء الانبياء.

وهذه الشبهة - كسابقتها - لا يمكن ان تصمد للمناقشة اذا عرفنا ان هذه الكتب الدينية قد تعرضت للتحريف والتزوير - كما سوف نتعرض الى ذلك في بحث مستقل - وكان أحد أسباب التحريف هو الانفصال التأريخي الذي وقع بين الانبياء واممهم الامر الذي جعلهم غير قادرين على الاحتفاظ الديني. وقد أشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة عند حديثه عن امم هؤلاء الانبياء والجماعات التي نزلت فيهم هذه الكتب.

بالاضافة الى ان ملاحظة محتوى الخلاف بين القرآن الكريم والكتب الدينية الاخرى يدعونا بنفسه للايمان بصدق القرآن الكريم، بعد ان نجد التوراة والانجيل يذكران في قصص هؤلاء الانبياء مجموعة من الخرافات والاوهام يتجاوزها القرآن الكريم، وينسبان الى الانبياء اعمالاً ومواقف لا يصح نسبتها اليهم ولا تليق برسل اللّه والقوّام على شريعته ودينه بل لا تليق بمصلحين عاديين من عامة البشر كما يتبين ذلك بوضوح عند المقارنة بين القرآن والكتب الدينية الاخرى(۲).

وقد عرفنا في بحث اعجاز القرآن ان احدى النقاط المهمة التي يظهر فيها اعجاز القرآن الكريم عرضه لقصص الانبياء وحوادثهم بشكل

يبعث اليقين في نفوسنا ان مصادر هذا العرض ليست هي الكتب الدينية، ثم يأتي هذا العرض منسجماً ومؤتلفاً مع النظرة الواقعية للأنبياء والرسل الامر الذي يدلل على أنّ مصدره هو الوحي الإلهي.

 

الشبهة الثالثة :

ان اسلوب القرآن في تناول الافكار والمفاهيم وعرضها لا ينسجم مع أساليب البلاغة العربية ولا يسير على الطريقة العلمية في المنهج والعرض وذلك لانه يجعل المواضيع المتعددة متشابكة بعضها مع بعض فبينما يتحدث القرآن في التاريخ ينتقل الى موضوع آخر من الوعد والوعيد والحكم والامثال والاحكام وغير ذلك من الجهات فلا يجعل القارئ قادراً على الالمام بالافكار القرآنية، مع ان الموضوعات القرآنية لو كانت معروضة على شكل فصول وموضوعات مستقلة لكانت الفائدة المترتبة عليه أعظم والاستفادة منه أسهل وكان العرض منسجماً مع الاسلوب العلمي المنهجي الصحيح.

وتناقش هذه الشبهة على أساس النقطتين التاليتين :

الاولى : ان القرآن الكريم ليس كتاباً علمياً ولا كتاباً مدرسياً فهو ليس كتاب فقه أو تاريخ أو أخلاق وانما هو كتاب هداية وتربية وهدفه الاساس هو احداث التغيير الاجتماعي. والاسلوب القرآني خضع لهذا الهدف في طريقة العرض وفي التدرج في النزول وفي غير ذلك من الظواهر القرآنية كوجود الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه. وهذه الطريقة في العرض من الخصائص البارزة في القرآن الكريم التي خضعت لهذا الهدف للتمكن من إحداث التأثير المطلوب في نفسية الانسان المعاصر لنزول القرآن، بل ولكل انسان يستمع للقرآن الكريم أو يقرأه.

والنتائج العظيمة التي حققها القرآن الكريم في المجتمع الجاهلي أفضل شاهد على انسجام هذا الاسلوب مع الهدف الاساس للقرآن الكريم.

الثانية : ان هذه الطريقة في العرض يمكن ان تعتبر احدى الميزات التي يتجلى فيها الاعجاز القرآني بصورة أوضح فانه بالرغم من هذا التشابك في الموضوعات تمكن القرآن الكريم من الاحتفاظ بجمال الاسلوب وقوة التأثير وحسن الوقع على الاسماع والنفوس الامر الذي يدلل على براعة متناهية وقدرة عظيمة على عرض الموضوعات وطرح الافكار.

 

الشبهة الرابعة :

لا شك ان ذوي القدرة والمعرفة باللغة العربية يتمكنون من الاتيان بمثل بعض الكلمات القرآنية. وحين تتوفر هذه القدرة في بعض الكلمات فمن المعقول ان تتوفر أيضاً في كلمات أخرى. وهذا ينتهي بنا الى ان نجزم بوجود القدرة على الاتيان بسورة أو أكثر من القرآن الكريم لدى امثال هؤلاء لان من يقدر على بعض القرآن يمكن ان نتصور فيه القدرة على الباقي بشكل معقول.

والمناقشة في هذه الشبهة واضحة :

لان الاعجاز القرآني يتمثل في جانبين رئيسين - كما اشرنا سابقاً - جانب الاسلوب والتركيب البياني وجانب المضمون والمحتوى والافكار. وفي كل من الجانبين لا مجال لهذا الوهم والخيال.

اما في جانب المضمون فمن الواضح ان القدرة على اعطاء فكرة أو فكرتين لا يعني القدرة على اعطاء هذا المقدار الكبير المنسجم من الافكار والمفاهيم وفي نفس الظروف الموضوعية والذاتية التي جاء فيها القرآن الكريم. والتحدي الذي شرحناه في بعض أبحاثنا السابقة كان ضمن الظروف الخاصة التي عاشها النبي محمد (ص) وجاء فيها القرآن الكريم.

واما في جانب الاسلوب فان القدرة على جملة أو مقدار من الكلمات لا يعني القدرة على تمام التركيب بعناصره المتعددة التي لا يمكن ان توجد

أو تتوفر الا ضمن التركيب بكامله. وهذا شيء واضح لا يحتاج الى برهان، فاننا ندرك بوجداننا الحياتي انّ كثيراً من الناس يملكون قدرة النطق ببعض الكلمات العربية ولكن ذلك لا يعني انهم قادرون على ان يكونوا خطباء أو أدباء أو شعراء ويتمتعون بالبلاغة والفصاحة. كما انّ كثيراً من الناس يتمكّنون من القيام ببعض الاعمال البسيطة ولكنّهم غير قادرين على القيام بالمشاريع الضخمة التي تتركب من تلك الاعمال البسيطة كمشاريع البناء والصناعة والفن.

الصرفة في الإعجاز القرآني :

ولعلّ هذه الشبهة أو الوهم هو الذي أدّى بجماعة من متكلمي المسلمين - كالنظام ومدرسته - الى ان يفسروا ظاهرة الاعجاز القرآني بانَّها نحو من الصرفة. حيث يمكن ان يكون قد وجدوا - نتيجة الانطلاق من هذا الوهم - انَّ القدرة على الاتيان بمثل القرآن الكريم متوفرة ولكن عدم توفر أشخاص يأتون بمثل القرآن كانت نتيجة لتدخل اِلهي مباشر (صرفهم) عن المعارضة والمباراة.

ولكن هذا التفسير لظاهرة الاعجاز واضح البطلان اذا كان يريدون من توفر القدرة عند بعض الناس وجودها فعلاً لديهم ولكن اللّه صرف اذهانهم عن ممارستها. وذلك :

1 - لان محاولة المعارضة قد وقعت من بعض الناس وانتهت الى الفشل والخيبة كما تحدثنا بذلك كثير من النصوص التاريخية وتدل عليه بعض الوقائع في العصر القريب من قبل بعض المبشرين.

2 - ان صرف الاذهان انما يفترض بعد نزول القرآن الكريم ومن اجل التأكد من الاعجاز القرآني ليس علينا الا مقارنة القرآن بالنصوص العربية السابقة على وجوده وملاحظة مدى الامتيازات المتوفرة فيه دونها.

نعم اذا كان يريد القائلون بالصرفة ان اللّه سبحانه له القدرة على ان

يهب انساناً ما قدرة على الاتيان بمثل القرآن ولكنه لم يفعل.. فهذا لا يعني انّ القرآن الكريم ليس بمعجزة لانّ الهدف الرئيسي من المعجزة دلالتها على ارتباط صاحبها باللّه وما دامت القدرة عليها مرتهنة بالتدخل الإلهي فلابد ان تكون لها هذه الدلالة. وعنصر التحدي في مثل هذه المعجزة يكون موجوداً مادامت ليست تحت قدرة الانسان الاعتيادي بالفعل. وهذا الشيء من الممكن ان يدعى في كل معجزات الأنبياء أو المعجزات التي يمكن ان نتصورها.

 

الشبهة الخامسة :

إنّ النقطة الاساسية التي يستند اليها الاعجاز القرآني هو عدم قدرة العرب على معارضته رغم تحدي القرآن الكريم لهم مرة تلو الاخرى. ولكن هل أنّ العرب حقيقة لم يكونوا قادرين على معارضته ؟! أو أنّ اسباباً اخرى خارجية هي التي منعتهم عن تحقيق هذه المعارضة ؟!.

وتفرض الشبهة - بصدد الجواب عن هذا التساؤل - عوامل معينة منعتهم عن تحقيق هذه المعارضة وهذه العوامل هي : -

انّ العرب الذين عاصروا الدعوة أو تأخروا عنها بزمن قليل لم يعارضوا القرآن الكريم خوفاً على انفسهم وأموالهم من المعارضة بسبب سيطرة المسلمين الدينية على الحكم. ومحاربتهم كل من يعادي الاسلام او يظهر الخلاف معه. ولا شك انّ معارضة القرآن تعتبر في نظر الحكم من أبرز أنحاء العداء والمخالفة.

وحين انتهت السلطة الى الامويين الذين لم يكونوا مهتمين بالحفاظ على الاسلام والالتزام به الامر الذي كان يفسح المجال لمن يريد ان يعارض القرآن الكريم ان يظهر معارضته.. كان القرآن في ذلك الحين قد أصبح

أمراً معروفاً في حياة الامة مألوفاً لديها بأسلوبه وطريقة عرضه بسبب رشاقة ألفاظه ومتانة معانيه فانصرف الناس عن التفكير بمعارضته لانه أصبح من المرتكزات الموروثة لهم.

ويمكن مناقشة هذه الشبهة بملاحظة النقاط التالية :

اولاً : ان تحدي القرآن الكريم للمشركين كان منذ بداية الدعوة وفي الفترة التي كان الاسلام فيها ضعيفاً تجاه قوة المشركين. وبالرغم من ذلك لم يستطع احد من بلغاء العرب ان يقوم بهذه المعارضة.

ثانياً : ان سيطرة الاسلام في اواخر عصر النبي (ص) وعصر الخلفاء الاربعة الذي جاءوا الى الحكم من بعده لم تكن تعني منع الكفار من اظهار كفرهم. فقد اقر الاسلام جماعات من الكفار على ديانتهم كما حدث ذلك لاهل الكتاب حيث كانوا يعيشون في ظل الدولة الاسلامية في طمأنينة ورفاهية لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم. فلو كان واحد من هؤلاء قادراً على الاتيان بمثل القرآن الكريم لتصدى لمعارضته والانتصار لديانته على الاسلام.

ثالثاً : ان افتراض الخوف من المعارضة نتيجة للسيطرة الاسلامية انما يمنع من اظهار المعارضة للقرآن الكريم واعلانها. واما المعارضة السرية فقد كان من الممكن ان تتم ضمن الحدود الخاصة للمعارضين من اصحاب هذه الديانات دون ان تكون لها نتائج مضادة ولو كان من الممكن بمثل القرآن الكريم لامكن لهؤلاء ان يعارضوه ثم ينتظروا الفرصة السانحة لاظهار هذه المعارضة. خصوصاً اذا لاحظنا ان اهل الكتاب لازالوا يحتفظون بمجموعة من النصوص الدينية ويتداولونها مع أنها تتعارض مع القرآن الكريم.

رابعاً : من الملاحظ عادة ان الكلام مهما بلغ من رتبة عالية في البلاغة ومتانة الاسلوب وقوته فانّه يصبح كلاماً عادياً اذا تكرر سماعه ولذلك نرى القصيدة البليغة تصبح عادية عندما يتكرر القاؤها عدة مرات بحيث قد تبدو قصيدة اخرى اقل منها بلاغة انها ابلغ منها بسبب عدم تكرارها. وهذا يعني انّ الالفة والانس بالقرآن الكريم - لو كان كلاماً عادياً - تدعو الى ان يصبح ايسر على المعارضة والاتيان بمثله لا ان ينصرف الناس عن التفكير بمعارضته نتيجة لأُنسِهم به بالرغم من تحديه المستمر لهم وتعاليهم عليه.

 

الشبهة السادسة :

ان القرآن ليس معجزة وان كان يعجز جميع البشر عن الاتيان بمثله لأن المعجزة يجب ان تكون صالحة لأن يتعرف جميع الناس على جوانب التحدي فيها لأنّها دليل النبوة التي يراد بواسطتها اثبات النبوة لهم. والكلام البليغ لا يكفي في اعجازه عجز الناس عن الاتيان بمثله لا من معرفة جوانب التحدي والاعجاز فيه، من بلاغته وسمو التعبير فيه لا تتوفر الا للخاصة منهم الذين يمارسون الكلام العربي ويعرفون دقائق تركيبه وميزاته.

ويمكن ان تناقش هذه الشبهة بالمناقشات التالية :

الاولى : ان هذه الشبهة تتضمن في الحقيقة اعترافاً بالاعجاز القرآني الا انّها تحاول التهرب من ذلك باعطاء المعجزة طابعاً خاصاً يرتبط بمدى دلالتها على دعوى النبوة. فالشبهة لا تناقش الاعجاز من ناحية النقص في التركيب والمضمون القرآني وعدم ارتفاعه الى مستوى التحدي وانما تناقشه من زاوية قدرة الناس على فهم هذا الاعجاز واستيعابه.

الثانية : ان طريق الايمان بالمعجزة لا يتوقف على معرفتها عن طريق التجربة الشخصية المباشرة لها وانّما يمكن ان يتحقق عن طريق معرفة

ذوي الاختصاص والخبرة من الناس، الشيء الذي يجعلنا نصدق بالمعجزة، وهذا هو السبيل الوحيد لايماننا بكثير من حقائق الكون وخصائص عالم الطبيعة حيث يحصل لنا اليقين بها عن طريقة معرفة ذوي الاختصاص واخبارهم لنا بذلك بشكل لا يداخله الريب او الشك.

فحين يقف العرب اجمع وذوو الاختصاص من الدارسين والعلماء باتجاهاتهم المختلفة امام القرآن الكريم ويعترفون بخصائصه الاعجازية لا يبقى امامنا شك في اعجاز القرآن وارتباطه بالسماء.

الثالثة : ان فكرة الاعجاز في القرآن الكريم من الممكن ان تشرح وتوضح على نطاق واسع وليس ذلك مما يتعسر فهمها فيفهمها الناس على حدّ سواء، العربي منهم وغير العربي وذوو الاختصاص وغيرهم لان اعجاز القرآن لا يختص بالجانب البلاغي من اسلوبه بل هو المعجزة الخالدة التي لا تفنى والتي لا تختص بامة دون اخرى.

وقد اشرنا الى بعض الجوانب في الاعجاز القرآني التي لا ترتبط باسلوبه وبلاغته في ابحاثنا السابقة من علوم القرآن(۳).

 

http://al-shia.org/html/ara/books/lib-quran/olum_quran/a20.html

______________________________

(1) الهدى الى دين المصطفى : 1/330.

(۲) يمكن مراجعة كتاب الهدى الى دين المصطفى للبلاغي ج 2 في هذه المقارنة.

(۳) منهج السنة الاولى من محاضرات علوم القرآن الكريم (كلية اصول الدين) اعتمدنا بصورة رئيسية في عرض الشبهات ومناقشتها على دراسة السيد الخوئي دام ظله في كتابه البيان في تفسير القرآن.

مريم أخت أي هارون؟



    يقول النصارى أن محمدا لم يميز بين مريم أم المسيح ومريم أخت هارون وظن إن المرميين شخصية واحدة رغم الفارغ الزمني
     الشاسع , ويستند النصارى في فريتهم علي قول الله تعالي : ) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) سورة مريم )

    



    

    الشبهة قديمة جدا قدم الإسلام وقد رد عليها الرسول صلي الله عليه وسلم بنفسه, وأي رد بعد رده عليه صلوات الله وسلامه, غير أن أمر ما دفعني إلي أن أضع نفسي في حداء النصارى لأري هل سوف أصل إلي ما توصلوا إليه
    
    وصلتني رسالتان عن موضوع مريم العذراء البتول رضي الله عنها, الأولي عبر الموقع ومن سيدة مسيحية، بينما الرسالة الثانية من الدكتور غاليك فريد عميد سابق لجامعة بورثموث في انجلتري, ورسالته هده واحدة من سلسلة رسائل ضمن نقاش عبر البريد الالكتروني
    
    أما السيدة النصرانية فهي تقول في رسالتها
    
    انا مسيحية مؤمنة و لدي تجربة مع المسيح فلا تتعب علي الفاضي و لماذا لم تضع ما قلته عن الأغلاط في القرآن
    
    بالنسبة لمريم..هل يمكن لمريم ان تكون أخت هارون إذا كان هارون هو شخص ولد قبلها بمئات السنين بل تكون كمان بنت لأنها كمان كما كامن بنت عمران فستكون بنت هارون لأنه ابنه؟؟؟؟

    أما الدكتور غاليك فريد فرسالته طويلة ناقش فيها أمورا عدة عن النصرانية والكتاب المقدس, ثم تطرق إلي سورة مريم وقال أن الخلط بين المريمين واضح جدا في السورة
    
    
    By way of contrast one might ask how was the cannon of the Qu'ran was fixed. If we take your traditions we would have to say it was fixed by Said and Umer - how we don't know but hardly a wide acceptance by the Muslim community and it was impossible for it to be confirmed by the Prophet himself. If we look at the Qu'ran one would have to say that some inclusions look very odd indeed: The Cave for instance - it is of Greek origin and refers to the age of Decius when Christians were persecuted. In sura Mariam there is obvious confusion between Mary the mother of Jesus and also the sister of Aaron. Finally, there is only one direct quotation from the Bible, its is taken from the Psalms - how can this be if the Qu'ran existed before time could it contain a quotation from a book written in David's time.

     الرسالة التي وصلتني عن طريق الموقع، لا أعرف شخصية مرسلها، لدلك لم أر فيها أي غرابة, لكني لم أتوقع أن تصدر نفس الشبهة من شخصية مثقفة مثل الدكتور فريد, وهدا ما دفعني إلي الدخول في حداء النصارى لأختبر ما آدا كنت سوف أصل إلي ما توصلوا إليه أم لا
    
    من الطبيعي أن أبدأ من أول المصحف وأول سورة هي سورة الفاتحة تليها سورة البقرة وأراني أقرأ قوله تعالي في سورة البقرة (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ) البقرة : 87
    
    ماذا أفهم من هذه الآية بغض النظر عن ديانتي ؟
    
    أفهم أن بين موسي والمسيح علهما السلام عدد من الأنبياء وأن اليهود قتلوا بعضهم وكذبوا آخرين, ولا أظن أن أحدا سوف يجادلني في هذا الفهم
    
    وأمضي في التلاوة إلي أن أصل إلي قوله تعالي

    يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) النساء

    هذه الآيات تؤكد لي ما فهمته من الآيات السابقة, أي ان ما بين موسي وهارون وبين المسيح فترة زمنه كبيرة أرسل الله خلالها عددا من الأنبياء .. وتعليقا علي هذه الآيات يقول الدكتور إبراهيم عوض
    " فالإشارة إلى قتل اليهو د للأنبياء بعد نقضهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم فى حياة موسى يدل دلالة لا تقبل الشك على أنه قد مر زمن طويل بين موسى وعيسى بما لا يمكن أن يكون هذا ابن أخت ذاك. وهو ما نجده أكثر تفصيلا فى الآية 70 من سورة "المائدة": "لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ"، فهناك (حسبما تقول الآية) رسل قد تتابعوا بعد موسى وقابلهم بنو إسرائيل تارة بالتكذيب، وتارة بالتقتيل، مما يحتاج وقوعه إلى أزمان طويلة. "
    ( الدكتور إبراهيم عوض , مقال : هل أخطأ القرآن فى اسم والد مريم،  مريم العذراء ابنة يواقيم أم ابنت عمران )
    

    ثم أجدني في سورة المائدة وفيها يحدث القرآن عن اليهود وعن التوراة وما فيها من تشريعات وما أحدث اليهود من تحريف وبعد هذه الأخبار يقول الله تعالي
    
    وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)

    وهذه الآيات أيضا تؤكد لي تفاوت الأزمنة كما أنها تشير إلي أن عيسي عليه السلام أنزل عليه كتاب غير الذي أنزل علي موسي وأنه كتاب موسي سبق كتاب عيسي ( لما بين يديه ) أي لما قبله, والي هنا يمكني أن اخرج من الحذاء الذي ضقت به ذرعا بعد ان اتضح لي من القرآن ان موسي كان قبل عيسي عليهما السلام وان كتاب موسي التوراة وكتاب عيسي الإنجيل وان عيسي آمن بالكتاب الذي جاء قبله, وان أمه اسمها مريم وان اليهود قالوا عليها بهتانا عظيما

    ولننتقل الآن إلي أخت هارون التي ورد ذكرها في سورتي طه والقصص بدون ذكر اسمها .. يقول الله تعالي
    إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) – طه
    
    وفي سورة القصص

    وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ( 11 )
    
    نعلم من سورة طه ان الله أوحي وحيا إلهاميا إلي أم موسي بأن تقذف ابنها في اليم , ومن سورة القصص نفهم ان أم موسي أمرت أخت موسي أن تتبع أثره فلما وجد آل فرعون موسي عليه السلام والتقطوه وحرم الله عليه المراضع قالت أخت موسي (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ )
    
    وبدون الدخول في التفاصيل نذكر أمرين مهمين هنا، وهما أن القرآن لم يذكر أخت موسي بالاسم، بينما ورد اسم أمنا مريم في القرآن أكثر من اسم عيسي وقد ورد اسمها في حالات كثيرة مقترنا مع ابنها (عيسى ابن مريم ) (الْمسيح ابن مريم ) بل أن القرآن أشار إلي المسيح بنسبه إلي أمه دون ذكر اسم المسيح أو لقبه (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ) المؤمنون : 50

    أما النقطة الثانية وهي الأهم هي ان الآيات التي تفص علينا قصة ولادة موسي u تشير إلي ان لموسي عليه السلام أخت أكبر منه بعدة سنين علي أقل تقدير , بينما مريم ابنة عمران أم المسيخ u لم يكن لها أخ, كما يفهم من سورة آل عمران
    
    إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
    
    وبينما لم يسم القرآن أخت موسي بالاسم نجد ان القرآن يتحدث عن مريم رضي الله عنها بالتفصيل, بداية من انتمائها إلي الذرية الموحدة وأمها التقية امرأة عمران ذات القلب المعمر بالإيمان, إذ نذرت وحيدها لله سبحانه وتعالي محررا من كل حق لأحد غير الله, ثم تذكر الآيات ولادة مريم ومناجاة أمها لله .. وتسميتها ونشأتها نشأة حسنة وتكفل زكريا لها, ورزقها الذي يأتيها من السماء, وجوابها المفحم بالإيمان ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ) كما نجد تفاصيل أخري عنها في سور أخري مختلفة
    
    تبين أللآيات العلاقة بين من اصطفاهم فتذكر آدم ونوح عليهما السلام كما تذكر آل إبراهيم وآل عمران وتقرر بأنهم ذرية بعضها من بعض, هذا رغم عدم وجود علاقة نسب مباشرة بين آل عمران وبيت آدم ونوح, ذلك ان الرابطة المقصودة هي رابطة العقيدة ( انظر سورة البقرة : 124 ) ويلاحظ ان آيات الاصطفاء لم تذكر لا موسي ولا هارون عليهما السلام كما لم يأت ذكرهما في سياق قصة مريم نهائيا في سورة آل عمران, بينما ذكرت الآية نبيين كريمين هما زكريا وابنه يحي, وجاء ذكرهما في سياق يؤكد أنهما عاصرا مريم أم المسيح u, فقد كفل مريم بينما يحي عليه السلام هو ابنه فيلزم المعاصرة, وفي المقابل نري ان المسيح لم يذكر في الآية التي ذكر فيها أخت موسي, ورئينا كيف ان الآيات التي ذكرت موسي والمسيح معا تقرر ان المسيح أرسل بعد موسي بمدة طويلة وأن لكل منهما كتاب مع تحديد إيمان المسيح بالكتاب الذي قبله أي التوراة, ويكفي إيمان المسيح بالتوراة دلالة على سخافة قول من يقول ان القرآن لم يميز بين أخت هارون وأم المسيح
    
    وهناك أمر آخر لا أظن أن قارئ القرآن لا ينتبه له وهو اختلاف مناخ الآيات التي ذكرت أخت موسي وتلك التي ذكرت أم المسيح . ففي الآيات التي ذكر موسي وأخته تشعرك ان بني إسرائيل يعيشون في بيئة مخيفة, وما عليك إلا ان تتخيل أما ترمي ابنها في البحر كي تشعر بمدي الخوف الذي أحاط ببني إسرائيل وهم تحت عبودية فرعون ولتشعرن بمدي إرهاب فرعون من رد موسي وهارون عندما أرسلهما الله إلي فرعون (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ) ويقول الله سبحانه لهما (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) ( طه )

    إذن موسي عليه السلام أرسل لدعوة فرعون وإخراج بني إسرائيل من مصر, لم تكن هناك تشريعات بعد ولا حاجة لنذير يخدم في هيكل إذ لم يكن له وجود, بينما في آيات سورة آل عمران نجد ان أم مريم تنذر ما في بطنها محررا لا يخدم أحدا سوي الله ... فهل كان من الممكن ان تهب أم موسي ابنتها لخدمة هيكل لا وجود له وان تعد بأن يكون ما في بطنها محررا وهم تحت عبودية فرعون يذبح في الأولاد ويستحي النساء ؟ هذا عير ممكن, مما يدل علي ان الآيات التي تتحدث عن مريم أم المسيح تخبر عن فترة غير تلك التي عاش فيها موسي عليه السلام
    
    ماذا عن من قرأ آية واحدة في القرآن عن مريم واكتفي, هل ممكن ان يشتبه عليه الأمر, ونقصد قول الله تعالي (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) مريم : 28 )
    
    أنه أمر وارد وقد اشتبه الأمر علي وفد نجران الأمر فهم أول من أثار هذه الشبهة, كما يحتمل أنهم ما أرادوا إلا إثارة البلبلة فلا يوجد دليل علي أن الأمر اشتبه عليهم, خاصة وأنهم كانوا نصاري وفي كتابهم أمثلة شبيهة, علي سبيل المثال, في لوقا 18/38 ( فصرخ قائلا يا يسوع ابن داود ارحمني ) ومعلوم أن الفارق الزمني شايع بين داود ويسوع ولا يمكن أن يكون يسوع ابنا لداود .. إذن المقصود هنا ان يسوع من أسرة داود , وهذا هو نفس المعني الذي قصده اليهود حين نسبوا مريم لهارون لأنها فعلا من أسرة هارون, والتعبير الذي استخدمه اليهود استخدمه لوقا في 1/5 (كان في ايام هيرودس ملك اليهودية كاهن اسمه زكريا من فرقة ابيا وامرأته من بنات هرون واسمها اليصابات ) .. بغض النظر عن الفارق في التعبير فان المعني واحد وهو ان اليصابات تنتمي إلي أسرة هارون ( اللاويين ) , علما ان اليصابات زوجة زكريا وأم يحيى عليهما السلام هي خالة مريم أو أختها, وإذ أن نص لوقا يصرح بأنها من نسل هارون، فيلزم أن تكون مريم من نسل هارون أيضا، وحول كون مريم من نسل هارون قال الأرشمندريت يوسف درة حداد  " وهناك إشارة في الإنجيل بحسب لوقا تضع شبهة على نسب مريم العذراء من داود : فقد كان مريم العذراء (( قريبة أليصابات )) زوج زكريا وأم المعمدان وبالتالي تكون مريم العذراء قريب تها من نسل : وهذه كانت (( من بنات هارون ))  وبالتالي تكون مريم العذراء قريبتها من نسل لاوي، لا من نسل داود . يؤيد ذلك أن الشريعة الموسوية تأمر بزواج بنات إسرائيل في أسباطهن، وتؤكد بعض المصادر المنحولة أن مريم العذراء كانت من سبط لاوي، كما نقل اوغسطينوس" ( تاريخ المسيحية بحسب إنجيل لوقا ص 221 )
    
    قد يقال ان مريم لاوية من الأم فقط, وهذا لا نقر به لوجود أدلة كثيرة علي العكس, ليس أقله ان الزواج خارج السبط لم يكن مسموحا به، ولأننا لا نريد ان نخوض في هذا الموضوع في هذا المقال فسوف نفترض أنها لاوية من الأم فقط’ فهل كونها أختا من الأم فقط يمنع ان نطلق عليها أختا, الإجابة هي لا, عقلا ونقلا , وقد دعي الكتاب المقدس يسوع بابن داود ( لوقا 18/38 ) ولم يكن يسوع ابن داود من الآب بلا شك إذ لم يكن له أبا من الأصل
    
    إن الذين قالوا لمريم ( يا أخت هارون ) هم اليهود والقرآن يحكي عنهم, فلماذا دعوها بأخت هارون بدلا من أخت يهوذا ؟ هذا لو فرضا هي من سبط يهوذا من الأب .. للإجابة علي هذا السؤال دعونا نستحضر الموقف ... لنتخيل عذراء في الثانية عشر تدخل علي أهلها وهي تحمل وليدا أنجبته دون زواج .. ما هو رد فعلنا ؟ هل نقول لها :يا حبيبتي ما هذا الفعل الشنيع وأنت ابنة القديسين, أم نقول لها ما هذا الفعل الشنيع يا فاجرة يا ابنة برسوم .. فضحتينا يا ابنة الشيطان
    
    الحقيقة هي ان الخطابين واردين ولكل أسرة أسلوبها في مواجهة الأمور, ويبدوا لي ان القوم اختاروا الخطاب الأول, أي الخطاب العاطفي, والخطاب العاطفي اقتضي نسبها إلي هارون’ فقد كان لزاما عليهم ان يجتنبوا جانب الأب الملطخ بالعار لكثرة أبناء الزنا في هذا السبط, بداية من مؤسس السبط يهوذا الذي زنا بزوجة ابنه وولدت له فارص, وفارص هذا ينتمي إليه كل سبط يهوذا, وهذا وفقا لسفر التكوين ( 38/13 – 30 ) ومن هنا نري أن نسبها إلي يهوذا لا يناسب الموقف

    يقول البعض : هل هي صدفة ان تدعي مريم في القرآن أخت هارون وابنة عمران والد موسي ؟ (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
    
    أولا القرآن لم يقل أن عمران هو والد موسي عليه السلام ولا قال الكتاب المقدس بذلك, ان اسم والد موسي في سفر الخروج هو ( عمرام ) بالميم وليس بالنون, البعض يقولون لي هذا تلكك فالفرق حرف واحد, نقبل ذلك ونقول أنها ليست صدفة, كل ما في الأمر ان زوجة لرجل اسمه عمران سمت ابنتها مريم, هل في هذا أمر خارق للعادة ؟ أبدأ فكم من محمد تزوج بخديجة وولدت له فاطمة؟ كثير جدا
    
    لكن ما اسم والد مريم في الكتاب المقدس؟
    
    لقد ذكر الكتاب المقدس سلسلة من الأنساب لا مثيل لها في أي كتاب آخر وأهتم بذكر الأسباب التي دعت إلي تسمية الأشخاص بأسمائهم, ويحدثنا الكتاب المقدس عن المشاكسات بين الأجنة في بطون أمهاتهم , ولم ينس المهور التي دفعت إلي أمهاتهم, ففي سفر التكوين مثلا ( وتزاحم الولدان في بطنها فخرج الاول احمر.كله كفروة شعر.فدعوا اسمه عيسو وبعد ذلك خرج اخوه ويده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب.) 25/22-26 ) .. وقد ذكر الكتاب المقدس اسم أم مريم أخت موسي وذكر اسم والدها أمرام المتزوج بعمته يوكابد كما ذكر العمر الذي مات فيه .... ولكن لا شيء عن مريم أم ابنة عمران أم المسيح u, ورغم ذلك يخطئون القرآن فعجبا لقوم جعلوا لله أما لا يعرفون نسبها وبكل جرأة ينسبونها إلي شيخ زاني فلا حول ولا قوة إلا بالله
    
    صحيح هناك من يقول أن اسم والدها يواقيم مستندا إلي إنجيل يعقوب الالأبوكريفي المعروق بـ إنجيل يعقوب التمهيدي  ( Protevangelium of James ) ولكن هل نستند إلي مصدر يزعم ان مريم كانت راقصة وأن سلومة اقحمت أصبعها في فرجها, هذا ما جاء في إنجيل يعقوب الفقرة 15, 19 و 20 .. فهل نأخذ به ونترك كتابا رفعها إلي ارفع المراتب وجعلها سيدة نساء العالمين

    كلا ثم كلا

    الحقيقة هي انه من السهل ان ينقل أي احد هذه الشبهة ولكن ليس من السهل ان يستخرج أي احد تلك الشبهة من القرآن وذلك للأسباب التي ذكرناها .. وأي من يقول أن القرآن لم يميز بين المريمين فهو لم يقرأ من القرآن آية واحدة تتحدث عن أمنا مريم


    محمود أباشيخ

http://www.burhanukum.com/article467.html
***

قوله تعالى: «يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا» ذكر في المجمع، أن في المراد من هارون أربعة أقوال: أحدها: أنه كان رجلا صالحا من بني إسرائيل ينسب إليه كل صالح و على هذا فالمراد بالأخوة الشباهة و معنى «يا أُخْتَ هارُونَ» يا شبيهة هارون، و الثاني: أنه كان أخاها لأبيها لا من أمها، و الثالث: أن المراد به هارون أخو موسى الكليم و على هذا فالمراد بالأخوة الانتساب كما يقال: أخو تميم، و الرابع: أنه كان رجلا معروفا بالعهر و الفساد انتهى ملخصا و البغي الزانية، و معنى الآية ظاهر.

العلامة محمد حسين الطباطبائي
الميزان في تفسير القرآن، ج‏14، ص: 45